بقدر ما تزداد أهمية وسائل الإعلام والاتصال في المجتمع المعاصر، خاصة مع التطورات التكنولوجية والتغيرات الاجتماعية الجديدة التي تحدثها، بقدر ما يشكو الإعلام العربي بشكل عام من ضعف ووهن شديدين سواء كان ذلك على مستوى الوظائف التقليدية للإعلام مثل الإِخبار والتوعية والتثقيف، أو على مستوى الوظائف الجديدة مثل الاتصال الاستراتيجي والتأثير الناعم في الرأي العام المحلي والدولي، والمساهمة في معاضدة الأمن القومي، الذي أصبح عرضة لأخطار داخلية وخارجية أكثر من أي وقت مضى.
شهد العالم في الثلاث عقود الأخيرة “انفجارا في وسائل الاتصال”[i] وزيادة في تركيز ملكية الشركات العاملة في مجالي الإعلام والتكنولوجيا مدعومة بتبني وانتشار العولمة الاقتصادية والثقافية حول العالم، وكذلك تغييرا تدريجيا للبنى والمفاهيم التي كانت تنظم وتُنظّر لدور ووظائف وسائل الإعلام والاتصال في المجتمع. وبالتوازي شهد العالم العربي بشكل عام غيابا واضحا لرؤية تخطيطية واستراتيجية لمجال الإعلام والاتصال الذي لا يزال إلى اليوم من أكثر القطاعات حيوية واستراتيجية.
غياب الرؤية لم يقتصر على الوعي بضرورة إعادة البناء والتنظيم ووضع أسس جديدة للتطوير في خضم التحولات المجتمعية والدولية والتكنولوجية الجديدة فحسب، وإنما أصر متخذو القرار على مواصلة نفس النهج التقليدي والمحافظ في إدارة قطاع الإعلام والاتصال، ضمن نموذج قديم متحكّم وسلطوي لا يتماشى مع متطلبات المرحلة، وذلك بالرغم من وجود بعض المحاولات في عديد البلدان العربية التي دعت للانفتاح والتطوير كشرط أساسي لمواكبة العصر.
نحاول من خلال هذا البحث، في الجزء الأول، تسليط الضوء على أهمية الإعلام والاتصال في المجتمع المعاصر، بيان علاقته بالسلطة ودوره الاستراتيجي الجديد محليا ودوليا. وفي الجزء الثاني من هذا البحث، نحاول وصف وتحليل أهم مشاكل وتحديات الإعلام العربي، لنصل إلى اقتراح نموذج جديد يأخذ بعين الاعتبار التغيرات الاجتماعية والثقافية والسياسية في العالم العربي والتطورات التكنولوجية التي تجتاح العالم وتجعل من شعوبنا سوى مستهلكين لسلع إعلامية وثقافية جديدة ومستخدمين لأدوات اتصالية وسياسية أكثر خطورة من سابقاتها، باعتبار أنها تُستهلك وتُستخدم في عالم افتراضي يصعب التحكم في أطرافه والوعي بأخطاره وتداعياته.
أهمية الإعلام في المجتمع
تحتل وسائل الإعلام في مجتمعاتنا الحالية المكانة الأبرز في تشكيل نظرتنا تجاه العالم. فهي تسلّط تأثيراً قوياً على آرائنا وأفكارنا، وتغيّر طريقة نظرتنا للأشياء، ولكنها أيضا تغيّر في أسلوب حياتنا، وتُشكل نظرتنا تجاه أنفسنا. وعلى هذا الأساس أصبح من الطبيعي أن يُعطى مجال الإعلام الأولوية والاهتمام الكبيرين من قبل الأفراد والمؤسسات والشركات والحكومات.
يتمثل العنصر الأول من أهمية الإعلام في المجتمع بوظيفة الإِخبار، التي تقدمها وسائل الإعلام بمختلف أشكالها التقليدية والرقمية. ففي ظلِ شكلٍ جديدٍ من المجتمعات التي نعيشها اليوم، ونقصد بها “مجتمع المعلومات”، لا يمكن الاستغناء عن هذه الوسائل التي تُمدّ المجتمع، بمختلف مكوناته، بالأخبار والمعلومات والبيانات والتحاليل التي تجعله في حالة تواصل مستمر، وتمكّنه من أن تكون المعلومات هي القاعدة الأساسية في التخطيط واتخاذ القرار، سواء كان ذلك على المستوى السياسي، أو الاقتصادي، أو حتّى على المستوى الشخصي.
وعلى الرغم من أهميتها، فإن وظيفة الإخبار تَطرح اليوم أكثر من تساؤل، حول مدى دقّة ومصداقية الأخبار المنشورة في المجتمع، أمام ظهور وسائل إعلام رقمية جديدة، سريعة في النشر والانتشار، وغير منضبطة في احترام القواعد الأخلاقية وآليات العمل الإخباري المهني. ممّا تسبّب في انتشار الأخبار الزائفة، وساهم في ظهور نمط جديد من المجتمعات تسوده فوضى الأخبار، وتكريس الشك بين مكوناته، وإضعاف علاقة الثقة التقليدية بين وسائل الإعلام والجمهور.
وتكمن الأهمية الثانية للإعلام في الوظيفة التربوية والتوعوية، التي يقدّمها للمجتمع بفضل ما تحمله وسائل الإعلام من مضامين تربوية وثقافية تساهم في صقل فكر أفراد المجتمع والزيادة في وعيهم حول القضايا والمسائل المصيرية والرهانات التي تهم هذا المجتمع.
ولكن هذه الوظيفة التربوية والتوعوية أصبحت هي الأخرى على المحك، لأن وسائل الإعلام التقليدية المُنظَّمة التي كانت تقوم بهذا الدور عن طريق الطباعة والإذاعة والتلفزيون، باتت تعاني من منافسة شديدة لوسائل إعلامية رقمية لا تحمل نفس الأهداف ولا تعمل ضمن نفس الآليات. كما أن الأجيال الجديدة من مستخدمي وسائل الإعلام أصبحت لا تدخل بالضرورة ضمن نفس الأطر التربوية والتوعوية التي رُسمت لها، بسبب العولمة الثقافية والاقتصادية، وانفجار وسائل الاتصال، وعدم التأقلم الكافي للدول أمام تغيرات العصر الفكرية والتكنولوجية.
أهمية الإعلام في الاتصال الاستراتيجي
الوظيفة الثالثة والأكبر التي تقوم بها وسائل الإعلام، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية والتي تكرّست فعليا بعد انتهاء الحرب الباردة، هي وظيفة الاتصال الاستراتيجي. فخرجت وسائل الإعلام عن وظائفها التقليدية الإخبارية والتربوية والتوعية، لتصبح الأداة الاستراتيجية الأساسية في إحداث التغيير داخل المجتمعات، ولتكون الأداة الأكثرُ تفضيلا في التأثير السياسي والثقافي والاقتصادي، والمحرك الرئيسي في الجيوسياسة والعلاقات الدولية.
لذلك صُنّفت وسائل الإعلام، في وظيفتها الاستراتيجية الجديدة، بإحدى أهم أدوات “القوى الناعمة”، التي عبرها يُمهّد للحروب ولتنفيذ التغيرات القسرية في شتّى مناطق العالم لأسباب أيديولوجية. وتطورت هذه الوظيفة الاستراتيجية بنفس الاتجاه لتدعم قدراتها بما توفره وسائل الإعلام وشبكات الاتصال الرقمية من إمكانيات رهيبة تُمكّن من الوصول بسهولة إلى عقول الناس والتأثير الكبير على سلوكهم وفكرهم.
ونكاد نقول إن الوظائف التقليدية لوسائل الإعلام، مثل الإِخبار والتربية والتوعية، أصبحت في خانة الموضة القديمة، بالرغم من أهميتها ومواصلة ممارستها إلى اليوم، لأن الوظائف الجديدة التي أصبحت تعبّر عنها وسائل الإعلام تدخل ضمن الرهانات الجديدة التي تواجهها المجتمعات في خضم منافسة دولية شرسة على نوع وشكل المجتمع الدولي السياسي والاقتصادي الذي ترنو القوى العظمى لتأسيسه.
وازدادت أهمية الإعلام، ضمن بعد الاتصال الاستراتيجي، ليصبح جزءً لا يتجزأ من الاستراتيجية الأمنية للدول. بل أن الحروب مهما كان نوعها ومهما اختلفت أطرافها هي في الأصل حروب إعلامية، تبدأ بالكلمات، وربّما تتحول لاحقا إلى حروب فعلية. وتزخر العقود الأخيرة بالأمثلة التي كانت فيها وسائل الإعلام المحرّك الأساسي في شن الحروب وإدارتها، مثل الحرب في فيتنام والحرب في العراق وأفغانستان والحصار الذي فُرض على كوبا لسنوات طويلة، وكذلك مختلف الأحداث التي عاشتها الدول العربية مؤخرا ضمن ما يعرف بـ”الربيع العربي”.
صناعة الصورة والبعد الاستراتيجي للإعلام
صناعة الصورة عبر وسائل الإعلام باتت الصناعة الأكثر استراتيجية في مختلف المجالات، وخاصة في المجال السياسي والاقتصادي. فالبحث عن أطر لصور جديدة للأفراد والمجموعات والحكومات بات من أكثر المجالات الاستراتيجية في الإعلام؛ أطر وصور يمكن استخدامها للعرض أو للتأثير أو للإقناع أو للتغيير. ولن نبحث هنا طرق وأهداف هذا الاستخدام لأنه متقلّب حسب الظروف ويمكن أن يظهر سلبيا أو إيجابيا طبقا لوجهة نظر الأطراف ذات المصلحة.
الاتصال الاستراتيجي والأيديولوجيا
وبالرغم ممّا يقال عن فشل وانتهاء المواجهات الأيديولوجية وجها لوجه، كالتي كانت سائدة في فترة الحرب الباردة، فإن نوعاً جديداً من الأيديولوجيا، أكثر خطورة، سرعان ما انتشر حول العالم وتقمّص ثوب ما يسمى بـ”الأيديولوجيا الناعمة”، التي تنتشر عبر جرعات يومية تبثها وسائل الإعلام، وخاصة الرقمية، عبر الشبكات غير المرئية. وأثبتت هذه الجرعات الآنية فعاليتها في التأثير على العقول، لأنها تمُر وتُبتلع بسلاسة، وبدون ضجيج، عبر الشبكات، ومن خلال الاستخدام الشخصي للأخبار والمعلومات والبيانات التي تصل للعقل بسرعة وسهولة شديدة، وتعمل بالعقل في لحظات ما لم تقدر عليه عمليات التلقين الأيديولوجي المباشر في سنوات.
إن أهمية الإعلام في المجتمع أمر واقع لا محالة، وتزداد أهميته يوم بعد يوم، ويزيد ارتباط تطوره بالتكنولوجيا في جعل العلاقة بين وسائل الاعلام والمتلقي أكبرُ تعقيداً في جميع نواحي الحياة.
المقصود من ذلك أن مسائل التحكم، والاستخدام الموجه لوسائل الإعلام خرجت عن الأطر التقليدية المعمول بها، وأصبح التركيز ليس فقط على وظائف ودور وسائل الإعلام في المجتمع، بل تحوّل تسليط الضوء أكثر فأكثر على مستخدِم وسائل الإعلام الذي تغيرت علاقته بوسائل الإعلام وأصبح أكثر تحرراً من السابق، يستخدم ما شاء، ويتواصل مع من شاء، بدون أن يكون قد خرج فعلا من حلقة التأثير الذي تسلّطه وسائل الإعلام والاتصال على المجتمع.
وفي الواقع، إن المفهوم التقليدي للإعلام ووظائفه في المجتمع يحتاج إلى نوع من إعادة النظر، لأن أشكال وسائل الإعلام الرقمية المنتشرة عبر الشبكات خلقت ثورة جديدة في المفاهيم كما في الاستخدامات، وبالتالي وجب النظر إلى مجال الإعلام بشكل مختلف، وبرؤية جديدة، تأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الفكرية التي أحدثتها التطورات التكنولوجية، والسياق الاجتماعي والثقافي والاقتصادي الجديد الذي أفرزته العولمة وسياسة نظام القطب الواحد منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وسيطرة النظام الرأسمالي كشكل وحيد في إدارة العالم.
العلاقة الجدلية بين الإعلام والسلطة
بالرجوع إلى المفهوم السوسيولوجي للسلطة، فإنها تعبّر عن “القدرة العلائقية التي تُمكّن فاعلاً اجتماعياً بأن يؤثر بشكل غير متناسب على قرارات الفاعلين الاجتماعيين الآخرين”[ii] و”تمارس السلطة من خلال وسائل القسر أو من خلال بناء معنى أو هما معا، على أساس خطاب تهتدي به الأطراف في عملها”[iii]. وهنا يكمن دور وسائل الإعلام من خلال القدرة التواصلية التي تمارسها في المجتمع، والتي تُعتَبَر في واقع الأمر ممارسة لسلطة من خلال عمليات النشر والإِخبار والدعاية والإقناع.
ومهما قيل عن وسائل الإعلام ودورها المحوري في المجتمع، إلا أنه لا يمكن بأي حال تصور فصل الإعلام عن السلطة… والمقصود بـ”السلطة” هنا في مفهومها العام وليس في مفهومها كدولة. فالمفهوم والنظرة التقليدية لوسائل الإعلام كسلطة تعتبر أن الإعلام جاء ليكون في المجتمع كسلطة رابعة إلى جانب السُلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. سلطة تقوم بدور الرقيب الذي يمدح القويم ويفضح الأعوج المنحرف، واضعا المصلحة العامة للمجتمع، وموضوعية التشخيص، وأخلاقيات الممارسة، كأطر وقيم أساسية للحكم والعمل.
لكن القيمة الاستراتيجية للإعلام من حيث التأثير والدعاية والإقناع، جعلت منه أفضل مكان للصراع على السلطة في مفهومها الواسع. وتحولت بذلك وسائل الإعلام إلى ما يسميه المفكر الفرنسي بيير بورديو[iv] (Pierre Bourdieu) “أدوات العنف الرمزي” الذي تمارسه الطبقات الاجتماعية التي تهيمن على هذه الأدوات وتسيّرها. ويُقصد ب”أدوات العنف الرمزي” أدوات الضبط والتحكم السياسي والاجتماعي في المجتمعات الراهنة.
ومن هذا المنطلق فإن الإعلام لم يخرج من النموذج القديم-الجديد حول آليات الصراع داخل المجتمع، مهما اختلف هذا المجتمع. فدائما نجد صراعاً بين من يمتلك وسائل الإنتاج وأدوات السيطرة والتحكم من ناحية، ومن يخضع للسيطرة ويحاول التحرر منها، من ناحية أخرى.
وممّا لا شك فيه، أن مسألة استقلالية وتبعية وسائل الإعلام، تأتي في قلب الجدل الحاصل حول علاقة هذا الإعلام بالسلطة. فالاستقلالية أو التبعية تأتي في ثلاثة مستويات:
- الدولة التي تحاول السيطرة على وسائل الإعلام من خلال أدوات مختلفة، منها ملكية وسائل الإعلام وانغلاق التشريعات المنظمة للقطاع؛
- رأس المال الخاص الذي تتقاطع مصالحه مع الطبقات السياسية الحاكمة ويصبح المسيطر بشكل مباشر أو غير مباشر على الحياة السياسية والاقتصادية. والأمثلة في هذا الإطار عديدة… مثال:
- ملكية روبرت مردوخ لوسائل إعلام مطبوعة ومرئية ومسموعة بريطانية واسعة الانتشار (The Times, Fox News, The Sun)، ساعدت على توطيد العلاقات مع الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير من خلال الدعم الإعلامي وعدم نقد المشاريع السياسية للشخصيتين خلال فترة حكمهما.
- وكذلك المساندة الكبيرة لمالكي وسائل الإعلام الفرنسية لمختلف الرؤساء الفرنسيين، مقابل مصالح سياسية واقتصادية لكل الأطراف (تبعية قناة TF1 لشركة “بويق” Bouygues، وجريدة Le Figaro لعائلة “ديسو”Dassault ).
- أما المستوى الثالث فهو القرب الأيديولوجي، إذ أن وسائل الإعلام، سواء كانت مملوكة للدولة أو لرأس المال الخاص، وبقطع النظر عن مناداتها المستمرة بالموضوعية والاستقلالية، فهي تحمل أيديولوجيا تختلف من بلد إلى آخر، ومن نظام سياسي إلى نظام سياسي آخر، ومن حزبٍ سياسي إلى حزب سياسي آخر.
يتّضح أن ملكية وسائل الإعلام، مهما كان الطرف الذي يملكها، هي جزء لا يتجزأ من ممارسة السلطة، وازداد هذا الأمر أهمية وتعقيداً في نفس الوقت مع تطور وسائل الإعلام في علاقتها بالتكنولوجيا، فالتطور الانفجاري لوسائل الاتصال، وانتشار شبكات المعلومات الرقمية بما فيها وسائل التواصل الاجتماعي، أفرز جدلاً جديداً حول مفهوم ودور ووظائف وسائل الإعلام في المجتمع، وأبرزَ فاعلين جدد يمتلكون أدوات اتصالية جديدة، على غرار فيسبوك وتويتر ويوتيوب، أكثر تأثيراً من الوسائل التقليدية، وأكثر لَعِبًا بالعقول والقلوب لأنها لا تستخدم نمط الأيديولوجيا المباشرة، بل تتّخذ شكل الأيديولوجيا الصامتة، أو الناعمة، التي تحدث عبر الشبكات. ممّا يجعلها الحلبة الجديدة للصراع على السلطة.
ويَعتَبِر عالم الاجتماع الأمريكي-الإسباني مانويل كاستلز، أن الصراع الأيديولوجي الجديد سيتم عبر الشبكات من خلال الصراع حول امتلاك سلطة الشبكة أو أجزاء منها. بمعنى أن المجتمع الحالي سوف يقابله ما يسمى بمجتمع الشبكات (Networks Society)، حيث تتقابل وتتصارع وتتنافر فيه الأفكار والآراء والثقافات، وحيث تُمارس فيه الأيديولوجيات بشكل ناعم، وحيث يتم فيه إعادة تقاسم السلطة في معناها التقليدي… ولربما يعد الصراع بين الولايات المتحدة والصين حول أعمال شركة هواوي أكبر مثال للصراع حول امتلاك الحصص في مجتمع الشبكات هذا، والذي يعكس حقيقة الصراع الأيديولوجي حول تقاسم السلطة بين أكبر قوتين عالميتين.
وبهذا فإن ممارسة السلطة التقليدية للدولة ربما لن يكون لها مجال في مجتمع الشبكات، أو على الأقل سوف تضعف ولن يكون لها قوة التأثير التقليدي في ممارسة السلطة.
وإن ممارسة السلطة في مجتمع الشبكات سوف يعيد التفكير في ماهية السلطة نفسها وسوف يعيد التفكير في جدلية علاقة السلطة بوسائل الإعلام والاتصال.
تطور الإعلام في الوطن العربي
على إثر استقلال الدول العربية، شهدت مرحلة إنشاء الدولة اتجاهات مختلفة في اختيار النظام السياسي الذي من المفترض أن يحكم البلاد. وتأرجحت هذه الأنظمة بين النظام الملكي الدستوري في شبه الجزيرة العربية (باستثناء اليمن) والنظام الجمهوري الرئاسي في معظم بلدان المشرق والمغرب العربي (باستثناء المغرب)، بالإضافة إلى أنظمة سياسية أخرى لا تدخل في هذين التصنيفين لأسباب أيديولوجية مبهمة (ليبيا). ومهما اختلف نوع النظام السياسي، فالأهمية هنا تتمثل في علاقة النظام السياسي بالإعلام، باعتبار أن عمل الإعلام وممارسته لوظيفته يأتي في قلب العلاقة بينه وبين النظام السياسي.
علاقة الإعلام بالنظام السياسي في الوطن العربي
منذ الاستقلال وبداية مرحلة تأسيس الدولة الحديثة، سعت معظم الأنظمة العربية، إلى وضع يدها على وسائل الإعلام إيمانا منها بالأهمية الاستراتيجية للإعلام في المجتمع ودوره المتزايد في صناعة الرأي العام. وبقيت معظم وسائل الإعلام العربية ولمدة طويلة تابعة للدولة، تحمل أفكارها وتنفّذ أجندات حكوماتها. ممّا أفرز مشهدا إعلاميا عقيما يتأرجح بين الانغلاق السياسي والإعلامي والانفتاح التدريجي الحذر والمُتحكَّمِ فيه من قبل السلطات الحاكمة.
وفي الواقع، لم يكن تطور الإعلام وممارسته في المجتمعات العربية، مختلفا عن تطور وممارسة السياسة. فعلاقة الإعلام بالسياسة هي الأخرى مسألة جدلية مثل علاقة الإعلام بالسلطة. كما أن ثقافة ممارسة الإعلام في المجتمع مرتبطة ارتباطا وثيقا بالثقافة السياسية السائدة في هذا المجتمع. فمن الطبيعي استحالة قيام وسائل الإعلام بدورها النقدي والرقابي في المجتمع بالشكل المطلوب إذا كانت تابعة للدولة أو خاضعة لآليات التحكم والرقابة المسبقة التي تمارسها أجهزة الدولة.
وبالتالي بقيت وسائل الإعلام العربية حتى تسعينيات القرن الماضي، باستثناء بعض التجارب التي شهدت انفتاحا إعلاميا محدودا (لبنان)، بقيت سجينة الأنظمة السياسية، فلم تقم بدورها الطبيعي ووظيفتها التقليدية في المساهمة في تطوير الثقافة السياسية العربية وفي الدفع نحو تعزيز الديموقراطية التشاركية، واقتصر دورها في ممارسة الوظائف التقليدية التربوية والتوعوية في المجتمع وضمن أطر محدودة ومقيّدة بتوجهات الأنظمة السياسية والأجهزة التي تحكمها.
وبشكل عام، يمكن توصيف تطور الإعلام في البلدان العربية إلى حدود تسعينيات القرن الماضي، بأنه مجموعة من الأدوات الاستراتيجية ضمن عملية ممارسة السلطة والسيطرة السياسية، تميز بالاحتكار في مجال الإعلام المرئي والمسموع، وبالحرية المُراقَبَة في مجال الصحافة المطبوعة.
العولمة وبداية مرحلة انفتاح الإعلام في الوطن العربي
مثلت مرحلة انهيار الاتحاد السوفياتي مع نهاية تسعينيات القرن الماضي، مرحلة فاصلة في تاريخ تطور البلدان العربية في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وبالأخص في مجال الإعلام. فقد مهدّت هذه المرحلة لمرحلة جديدة أكثر خطورة وتأثيرا على تطور المجتمعات العربية تجسّدت في انتشار العولمة الثقافية والاقتصادية وتنامي دور النظام الرأسمالي ليُوضع كخيار وحيد ناجح ولا رجعة فيه لإدارة الاقتصاد والمجتمع، بعد الفشل الذريع الذي شهده النظام الشيوعي السوفياتي. ممّا وضع العالم تحت نظام عالمي جديد- نظام القطب الواحد- بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية ونظامها الرأسمالي.
وكان لهذه المرحلة الجديدة تأثيرا بالغا في تطور الإعلام في البلدان العربية. فإلى حدود سنة 1990، لم يكن العالم العربي يمتلك وسيلة إعلام مرئية ومسموعة وحيدة خاصة. وحتّى بعض التجارب النادرة التي وجدت في لبنان والمغرب لتأسيس محطات إعلام مرئية ومسموعة خاصة، باءت بالفشل لأسباب سياسية واقتصادية.
ويمكن القول بأن البداية الفعلية لوجود وسائل إعلام مرئية ومسموعة خاصة في الوطن العربي، كانت في بلدان الخليج مباشرة بعد سنة 1990، وتزامن تأسيسها مع توفر تقنيات البث عبر الأقمار الصناعية التي ساهمت بصورة كبيرة في انتشار المحطات الإذاعية والتلفزيونية عربيا وإقليميا. وبالرغم من هذا التطور الكبير في تاريخ الإعلام العربي نحو الانفتاح الإعلامي والسياسي، إلّا أن واقع عمل هذه المؤسسات الإعلامية الجديدة أظهر العلاقة المتداخلة والمبهمة بين الإعلام والسيطرة السياسية التي تمارسها الجهات المانحة أو الجهات الكفيلة. وحتّى أن بعض المؤسسات الإعلامية لا يمكن تصنيفها ضمن التصنيفات التقليدية (خاصة- عامة).
وحاولت بعض البلدان العربية أن تكون أكثر انفتاحا من الناحية السياسية والتنظيمية في مجال الإعلام، إذ سعت، ضمن محاولات حذرة، إلى إنهاء الاحتكار في مجال الإعلام المرئي والمسموع، وإعطاء مهمة الترخيص للمحطات الإذاعية والتلفزيونية لجهات أو هيئات مستقلة ضمن قوانين وأنظمة تشريعية محدّدة (إنشاء الهيئة العليا للاتصال السمعي المرئي بالمغرب سنة 2006).
وفي الواقع، لم تكن بداية التطور نحو الانفتاح الإعلامي في الوطن العربي ناتجا عن وعي سياسي، بل فرضه واقع مجتمعي جديد هجر من خلاله المشاهدون العرب إلى الأقمار الصناعية الغربية التي أصبحت تمدهم بأخبار بلدانهم ب”موضوعية” و”مهنية” أكبر ممّا توفره لهم وسائلهم الإعلامية الوطنية. وفي غياب إمكانية الرقابة على الأخبار والمعلومات والثقافات التي تأتي من “السماء”، لم تجد معظم الدول العربية حلاّ سوى بداية التفكير التدريجي نحو الانفتاح الإعلامي الداخلي.
لكن هذا الانفتاح الإعلامي بقي مشلولا لأن الانفتاح السياسي بقي هو الآخر مشلولا، وظلت المبادرات الإعلامية المرئية والمسموعة الخاصة “تابعة” أو مراقَبة. في حين لم تتطور الصحافة المطبوعة إلى المستوى المطلوب في ظل التغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية الدولية الجديدة، وبقيت أجهزة إعلام مقيّدة وتابعة لمموليها وكفيليها. أما وكالات الأنباء العربية التي كان من المفترض أن تستفيد من التغيرات الجديدة التي شهدها العالم، بقيت هي الأخرى سجينة تبعيتها للحكومات، ولم تتغير تماشيا مع عدم تغير الحكومات نفسها، هذه الحكومات التي لم تستخلص الدروس ولم تقرأ جيدا ما يحصل في العالم من تحولات جذرية في مستوى السياسة والاقتصاد والثقافة وتكنولوجيا الإعلام، فعصفت بمعظمها الأحداث التي شهدتها البلدان العربية في سنة 2011.
“الربيع العربي” وتطور الإعلام في الوطن العربي
يمكن القول بأنه ولأول مرّة في تاريخ العرب، شهدت سنة 2011 خروج سيطرة وسائل الإعلام عن سيطرة الدولة. ولا نقصد هنا أن وسائل الإعلام التقليدية المرئية والمسموعة والمطبوعة قد خرجت عن طاعة من يكفلها أو من يتحكم في رأسمالها، بل نقصد أن وسائل إعلام الدولة، وبالرغم من إمكانياتها المادية والبشرية الضخمة، قد خسرت المعركة ولو مرحليا أمام وسائل إعلام واتصال رقمية جديدة تُقنع أكثر وتُعرّي بطريقة أفضل كل ما تم تفاديه منذ عشرات السنين عبر وسائل إعلام تقليدية لم يعد أحد يثق فيها أو يعطيها أهمية. ممّا جعل مؤسسات الإعلام العربي في وضعية جديدة صعبة تحمل أكثر من استفهام في مستوى الدور الذي تلعبه في المجتمع والوظيفة الواجب اتباعها لخدمة المواطنين.
لقد أثبتت أحداث 2011 في المنطقة العربية، بأن المعركة الجديدة للإعلام لا تتمثل في أدواتها التقليدية التي تتحكم في معظمها أجهزة الدولة أو رؤوس أموال ذات مصالح أو أيديولوجيات معيّنة، بل في أدوات الإعلام والاتصال الرقمية التي غيّرت منطق امتلاك وممارسة السلطة في مفهومها الواسع. فمفهوم سلطة الإعلام أصبح لا يقاس بحجم المؤسسة التي يمثّلها أو بحجم الجهة التي تمتلكها، بل بحجم التأثير الذي يمكن أن يُحدثه وبأداة النشر الذي يستخدمها. فقد أثبتت أحداث 2011 أن المحرك الرئيسي للتأثير على الشعوب العربية لم تكن القنوات التلفزيونية أو الإذاعات أو الجرائد والمجلات، بل ما وجد من أخبار ومعلومات ورموز عبر الشبكات. هذا النوع الجديد من التأثير الخارج عن أطر التنظيم التقليدية، أصبح هو السلاح الإعلامي الجديد الذي من خلاله يمكن الوصول بسهولة إلى عقول وقلوب المواطنين. هذا السلاح الجديد الذي أصبح يحظى بأكبر ثقة من الوسائل التقليدية وفي بعض الأحيان بثقة عمياء لأنه زئبقي، عادة ما يكون مجهول المصدر، ويقدّم للناس ما يريدون أن يروه ويسمعونه، ليصبح سهل الإقناع، حاملا بين طياته أيديولوجية جديدة مبهمة لا يعرف من ورائها لا الأهداف ولا التداعيات سواء على المستوى الشخصي أو المجتمعي.
لقد قدمت التجارب الفاشلة لإدارة الإعلام والاتصال في البلدان العربية الفرصة السانحة لمواطنيها لينقلبوا ضدها ولو جزئيا وبأشكال مختلفة، وذلك من خلال العزوف عن وسائل إعلام الدولة التي من المفترض أن تقوم بدورها التقليدي وتساهم في بناء المجتمع، نحو وسائل إعلام بديلة، يسهل الحصول عليها والانتماء إلى مبادئها بحكم الواقع التكنولوجي الجديد في المجتمع، ولكنها سوف تتسبب في تداعيات خطيرة على مستقبل المجتمعات العربية إن لم تُقرأ وتُدرس بالشكل المطلوب ضمن تخطيط واستراتيجيات مبنية أساسا على الانفتاح السياسي والإعلامي والثقافي، حتّى لا تكون هذه الوسائل والأدوات الجديدة سببا في زيادة الفوضى والمشاكل التي تتخبط فيها معظم الدول العربية.
تكنولوجيا الإعلام والمعلومات والحرب السيبرانية الجديدة
انتشر مفهوم “الفضاء السيبراني” تدريجيا مع انتشار استخدام شبكات الانترنت وتكنولوجيا المعلومات حول العالم من قِبَل الجامعات والشركات والحكومات والمنظمات وحتّى الأفراد، وذلك مباشرة بعد انتهاء الحرب الباردة سنة 1990. وفي الواقع يجد مصطلح “السيبرانية” (Cybernetics) جذوره في أعمال الأستاذ والباحث الأمريكي في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا (MIT) نُربرت وينر (Norbert Wiener) الذي اعتبر في كتابه المنشور سنة 1948 تحت عنوان (Cybernetics) أن السيبرانية هي “مجال نظرية القيادة والاتصال سواء كانت مرتبطة بالآلة أو بالحيوان”[v]. ويجد هذا المصطلح جذوره أيضا حسب نفس الكاتب في المصطلح اليوناني “kuberneïn” الذي يعني “القيادة”.
والجدير بالذكر في نفس الاتجاه أن أعمال نُربرت وينر بدأت فعليا في قلب الحرب العالمية الثانية، حيث كانت بحوثه تتمحور حول كيفية توظيف برمجة تقنية المعلومات وآليات التحكم في مجال المدفعية المضادة للطائرات. بمعنى آخر، كان وينر في ذلك الوقت، مهتمًا بمبدأ التغذية المرتدة والتحكم باستخدام أجهزة الاستشعار التي تعمل كأعضاء حسية وجمع معلومات حول أداء الوظائف المتوقعة لقطعة معينة من المعدات. وتواصلت البحوث حول السيبرانية إلى اليوم ضمن مناهج متعدّدة، لعل أبرزها استخدام الذكاء الصناعي لدعم وظيفة القيادة أو التحكم والاتصال.
ولكن الأهمية الكبرى التي تطور من خلالها مفهوم “الفضاء السيبراني” في العشرين سنة الماضية، تتمثل في اقترانها بنوع جديد من الحروب غير التقليدية التي تكون فيها المعلومات محل الصراعات والحروب بين أطراف مختلفة وفي بعض الأحيان متداخلة، لا تمثل بالضرورة الحكومات أو الدول، ويمكن أن تتضمن أفراد أو شركات أو مجموعات غير معروفة، لكن يبقى الفضاء الذي يجمعها هو الفضاء السيبراني الجديد الذي تحرّكه من جهة، بنية الشبكات الرقمية وطبيعتها المفتوحة، والتطور السريع لتكنولوجيا المعلومات من جهة ثانية.
الفضاء السيبراني: الحلبة الجديدة للصراعات والحروب
في خطاب ترشيحه للرئاسة من قبل الحزب الديموقراطي في 15 يوليو 1960، تحدّث الرئيس الأمريكي السابق جون كيندي عن أن الولايات المتحدة الأمريكية، أحبت أم كرهت، أصبحت في مواجهة ما أسماه ب”الحدود الجديدة”[vi]. وبالرغم من أن كلماته في ذلك اللقاء الجماهيري كانت تعبّر عن ما يكمن وراء هذه “الحدود” من مجالات العلم والفضاء غير المستكشفة، ومشاكل السلام والحرب التي لم يتم حلها، وجيوب الجهل والتحيز التي لم يتم التخلص منها، وعديد الأسئلة التي تركت دون إجابة، فإن واقع الحرب الباردة التي كانت تميّز تلك الفترة، أثبت أن تحديات ما وراء الفضاء السيبراني، كانت هي الأخرى من أبرز تحديات تلك الفترة.
وعلى هذا الأساس وفي نفس الفترة شهدت الحرب السيبرانية الاستخدامات الهجومية والدفاعية لأنظمة المعلومات في سياق المواجهة بين الدول وخاصة في سياق المواجهة بين المعسكرين الشرقي والغربي، من خلال استهداف البنية التحتية العسكرية ولكن أيضا من خلال استهداف البنية والمعدات الإدارية والاقتصادية والمالية والصناعية والاجتماعية للدول.
وفي الواقع ورغم انتهاء الحرب الباردة، فإن الحرب السيبرانية لم تنتهي يوما، بل اتخذت أشكالا جديدة وأدخلت لاعبين جدد، في حين أن الحرب والصراع حول زعامة العالم والنظام الدولي الذي يجب أن يحكمه لم تتغيّر وأصبحت أكثر ضراوة مع الزيادة في اختلاف المصالح السياسية والاقتصادية والتباعد في وجهات النظر على الصعيد الدولي والإقليمي.
إذن يمكن القول بأن الحرب السيبرانية هي حرب غير تقليدية، قليلة التكلفة تتم عبر الشبكات الرقمية ويكون الصراع على المعلومات وقودها الأساسي. وتشمل بشكل عام مجالات متعدّدة من بينها القرصنة وسرقة البيانات أو إتلافها والتجسس والتحكم في البنى التحتية الالكترونية، والأخطر من ذلك ممارسة الحروب الإعلامية الالكترونية التي يكون الهدف منها التأثير في الرأي العام عبر الشبكات مهما كانت الفئة أو البلد المستهدف.
وممّا يزيد الأمور تعقيدا، فإن هذه الحرب السيبرانية الجديدة لا تخضع لآليات أو قواعد الحروب التقليدية بسبب طبيعتها وطرق عملها. فهناك صعوبة في الوصول أو معاقبة الجاني لعدم توفر الدلائل واستحالة الوصول إلى المصادر وعدم تعاون الدول فيما بينها، وكذلك بسبب غياب التشريعات الدولية المنظمة للفضاء السيبراني.
ويمكن تشبيه الحرب السيبرانية بحرب باردة جديدة، أين تحاول الدول الكبرى التحكم في الشبكة بأية طريقة. وفي هذا الإطار كان الصراع بين الدول على أشده في مجال تنظيم شبكة الإنترنت على المستوى الدولي، فالشبكة هي الحلبة الحقيقية لهذه الحرب الجديدة. وأبقت معظم الدول على خلافاتها في مستوى تنظيم الشبكة الدولية للإنترنت، في حين واصلت الولايات المتحدة الأمريكية رفضها الشديد لأي اتفاقيات دولية حول تنظيم الشبكة ومضت في شعارها “لا أحد يشرف على الإنترنت”، في حين أن الواقع يُثبت أن من يمسك أكثر بخيوط الشبكة، هو من يتقدّم أفضل في هذه الحرب السيبرانية.
والأمثلة على هذه الصراعات الجديدة عديدة، آخرها الصراع الدائر بين إدارة دونالد ترامب وشركة بايت دانس (Byte Dance) الصينية صاحبة تطبيق “تيك توك” العالمي. إذ أصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 4 أغسطس 2020 أمرا تنفيذيا بإيقاف جميع نشاطات هذا التطبيق في الولايات المتحدة الأمريكية معلّلا هذا الأمر بتهديدها للأمن القومي ومتهما الشركة بارتباطها بالحزب الشيوعي الصيني، لكنه وضع شرط الإبقاء على نشاطها إذا ما تم شراء فروعها العاملة في أمريكا الشمالية من قبل شركة أمريكية. والواقع أن هذه المزاعم هي روايات مشكوك فيها طبقا لعديد المختصين في الأمن السيبراني، الذين صرحوا بأن جمع المعلومات التي يقوم بها تطبيق “تيك توك” لا يقل أهمية عن مثيلاته مثل “سناب شات” و “أنستغرام” الأميركيين[vii]. ورجّح معظم المتابعين إلى أن المسألة لا تعدو أن تكون حلقة أخرى من حلقات الصراع التجاري والاقتصادي والتكنولوجي الدائر بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، فتطبيق “تيك توك” هو عبارة عن شركة تكنولوجية صينية ناجحة جداّ تضم مليار مستخدم (100 مليون مستخدم في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها)، وقيمة سوقية بعشرات المليارات من الدولارات في ارتفاع مستمر تهدّد كبريات الشركات الأمريكية العاملة في نفس المجال.
وفي شهر يوليو 2020، أصدرت الهيئة الفدرالية للاتصالات الأمريكية (FCC) قرارا تعتبر فيه أن شركتي هواوي (Huawei) و زي تي إي (ZTE) الصينيتين تهديدا للأمن القومي. وصرّح رئيس الهيئة الفدرالية للاتصالات بأن “الشركتان تتمتعان بعلاقات وثيقة مع الحزب الشيوعي الصيني والجهاز العسكري الصيني، وتخضع الشركتان إلى حد كبير للقانون الصيني الذي يطالبهما بالتعاون مع أجهزة المخابرات في البلاد. لا يمكننا ولن نسمح للحزب الشيوعي الصيني باستغلال نقاط ضعف الشبكة وتعريض البنية التحتية للاتصالات الحيوية للخطر.”[viii] حسب قوله. وبالرغم من صحّة هذه الاتهامات من عدمها، فإن الواقع يُظهر أن شركة هواوي أصبحت الأولى عالميا في بيع الهواتف المحمولة في الربع الثاني من عام 2020 على حساب شركتي سام سونغ وآبل بمعدّل 55.8 مليون جهاز[ix].
إن الحرب السيبرانية التي يكون محورها الأساسي الحرب التكنولوجية لا تشمل فقط الجوانب التجارية والاقتصادية، بل هي في قلب الحروب العسكرية بشقيها التقليدي وغير التقليدي. فحادثة مقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني في العراق في بداية يناير 2020، تعبّر عن دقّة تنفيذ العمليات العسكرية التي تستند ليس فقط على المعلومات ولكن أيضا ما توفره شبكات الاتصالات والإنترنت والأقمار الصناعية من بيانات دقيقة تساعد بشكل أساسي في تنفيذ العمليات العسكرية.
الأمر لا يقتصر على توظيف التكنولوجيا والشبكات في الحصول على معلومات دقيقة لتنفيذ المهمات العسكرية، بل أيضا توظيف نفس التكنولوجيا ونفس الشبكات ضمن حرب سيبرانية شاملة لتدمير وإتلاف التكنولوجيا والشبكات المنافسة أو المعادية. ففي سنة 2010، تم استعمال أول سلاح رقمي[x] في العالم عُرف لاحقا باسم (Stuxnet). وهو عبارة عن هجوم سيبراني مشترك أمريكي-إسرائيلي تم تفعيله لتعطيل أجهزة الكمبيوتر التي تتحكم في أجهزة الطرد المركزي ضمن برنامج إيران النووي. وقد تسبب هذا الهجوم في أضرار جسيمة للمنشآت المعنية وتأخير كبير في عمل البرنامج.
وهناك أمثلة عديدة أخرى تصب في نفس الاتجاه، لكن ما يجب التأكيد عليه هو أننا أصبحنا نعيش منذ انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي، ضمن نوع جديد من الحرب والصراع الدوليين، الهدف الأساسي منهما السيطرة على العالم وفرض نظام عالمي جديد لم تتّضح ملامحه بعد، لكن جميع الأدوات مسموحة الاستعمال بما فيها الحروب التقليدية وغير التقليدية والحروب بالوكالة والحروب التجارية والاقتصادية والحروب السيبرانية والإعلامية وما إلى ذلك من الأدوات والسياسات.
وعلى المستوى العربي، تبقى معظم الدول العربية خارج نطاق هذه الحلبة الجديدة للصراعات ضمن الشبكة وتطوير التكنولوجيا، ولا يتعدى دورها سوى أن تلعب دور المستهلك النهم للتكنولوجيا والأجهزة وللمضامين الرقمية على الشبكة. فالمضمون الرقمي العربي لا يزال ضعيفا مقارنة باللغات الأخرى المتواجدة بقوة على الشبكة. كما أن الدول العربية لا تمتلك شركات تكنولوجية قوية ذات صيت عالمي يمكنها منافسة كبريات الشركات التكنولوجية العالمية المتحكمة في مفاصل المجتمع الشبكي أو المجتمع الرقمي. وإذا ما تحدثنا عن حرب سيبرانية، فسوف تكون معظم البلدان العربية، لا محالة، فريسة سائغة أمام الماكينات التكنولوجية الحديثة، ولا يمكنها حتّى الدفاع عن بنيتها التقنية والتكنولوجية، بسبب التبعية للخارج وعدم الاستثمار الكافي في المواطن العربي وفي تطوير التكنولوجيا.
الإعلام في الوطن العربي: الرهانات والتحديات
وبالرجوع إلى الرهانات والتحديات التي يواجهها الإعلام العربي، نحاول فيما يلي تسليط الضوء على أهم ملامحها.
- عدم كفاية الوعي بأهمية الإصلاح والتطوير لدى متخذي القرار
يتبين من خلال معاينة هيكلة وتنظيم قطاع الإعلام والاتصال في الوطن العربي أن مسألة الوعي بأهمية وكيفية الإصلاح والتطوير لا تزال غائبة عن معظم متخذي القرار في البلدان العربية. فما نلاحظه هو انسداد في الفكر والوعي بالضرورة الملحة لإجراء تغييرات وتعديلات شاملة حول هذا القطاع الحيوي في المجتمع، يشمل إعادة الهيكلة والتنظيم ضمن عملية إصلاح وتطوير شاملة، ومن خلال أطر فكرية جديدة واستراتيجيات دقيقة تتماشى مع أهمية المرحلة.
هذا الانسداد الذي يُعزى لأسباب سياسية وفكرية بالأساس، لا يمكن تجاوزه إلاّ بكفاية الوعي لدى متخذي القرار، وربّما توكيل مسألة التطوير والإصلاح إلى جيل جديد من متخذي القرار تتوفر فيهم درجة عالية من الكفاءة العلمية والسياسية، والانفتاح والوعي والإيمان بضرورة البدء في تطوير قطاع الإعلام والاتصال، كجزء من عملية تطوير وإصلاح شاملة لجميع القطاعات الحيوية في المجتمع.
- صعوبة الفصل بين الدولة والإعلام: التبعية المكرهة
بقيت وسائل الإعلام العربية، بعد مرور أكثر من 50 سنة على استقلال الدول العربية، في علاقة تبعية للدولة على جميع المستويات وخاصة في مستوى التمويل والإشراف سواء كان بشكل مباشر أو غير مباشر. وحتّى بعض تجارب وسائل الإعلام الخاصة لم تشهد الاستقلالية الفعلية عن أجهزة الدولة ولم تتمكن من القيام بوظيفتها المجتمعية الصحيحة. هذه التبعية الحاصلة بشكل أو بآخر ساهمت في تكبيل وسائل الإعلام ولم تسمح لها بالتطور الطبيعي نحو وسائل إعلام وطنية مستقلة تساهم في البناء المجتمعي وتضغط بواسطة المراقبة والمتابعة والنقد الموضوعي من أجل التقدم والإصلاح والبناء.
- عدم وجود تخطيط وسياسات إعلامية واضحة وسليمة
اتّسمت التجارب العربية في مجال الإعلام في الخمسين سنة الأخيرة بالتخبط الواضح في السياسات وغياب التخطيط السليم المبني على المنهجية والعقلانية. فالملاحظ لتطور وسائل الإعلام العربية، يجد أنها كانت مرتبطة في تطورها بتطور السياسة المحلية وتم توظيفها بالأساس كأدوات أو أجهزة تتبع الدولة مثلها مثل باقي الأجهزة، وليست مؤسسات تخدم المجتمع في مفهومه الواسع. كما أن غياب التخطيط الفعلي لتطوير وسائل الإعلام العربية قد ساهم في جعل هذه الوسائل ضحية القرارات العشوائية التي تُؤخذ من حين لآخر ضمن ظروف سياسية معيّنة. مع أن عملية التخطيط السليم هي جزء لا يتجزأ من عملية البناء والتطوير الطبيعي لأي مجال كان، ومرحلة أساسية تسبق تنفيذ أي مشروع أو عملية إصلاح وتطوير.
- ضعف وقِدم التشريعات الإعلامية
تعود معظم القوانين والتشريعات المنظِمة لمجال الإعلام في الوطن العربي إلى بدايات الألفية الثانية، وبالرغم من محاولات تطوير هذه القوانين والتشريعات، إلاّ أن معظمها لم يُوَفق في موائمة التطورات الحاصلة في مجال الإعلام والاتصال بحكم ارتباطه بالتطور التكنولوجي والتغيرات السياسية والاجتماعية الحاصلة في الوطن العربي في السنوات الأخيرة. وأكبر مثال على ذلك فشل معظم الدول العربية في إيجاد الصيغ القانونية والتشريعية الملائمة لتنظيم ممارسة وسائل الإعلام الرقمية وتحديد الفروق بين الممارسات الفردية والممارسات المهنية ووضع الحدود الواضحة بين الممارسة الإعلامية المهنية وممارسة الفرد في المجتمع لحقّه في الرأي والتعبير.
ومن الناحية التنظيمية، تجاهلت معظم الدول العربية إلى حدّ اليوم أن مجال الإعلام هو مجال عام يتميز بالتعقيد والحساسية في نفس الوقت، ووجب إدارته بطريقة مغايرة عن الطرق السابقة. فعملية الإشراف على مجال الإعلام من قبل وزارة حكومية زادت من تكريس تهمة ممارسة الدكتاتورية والتحكم في الإعلام كمجال عام من المفترض أن يكون منفتحا ومستقلا عن أجهزة الدولة، حتّى وإن كان التمويل لبعض وسائل الإعلام يأتي من الدولة نفسها. وحاولت بعض الدول العربية مثل مصر وتونس والمغرب، بعد أحداث 2011، من إعادة هيكلة قطاع الإعلام برمته وتوكيل الإشراف عليه إلى هيئات مستقلة، لكن التجارب ما زالت في بداياتها وعملية المرور من عباءة الدولة إلى عباءة الهيئات المستقلة تبدو صعبة إلى حدّ ما.
- ضعف إنتاج المحتوى الإعلامي العربي
تبقى المنطقة العربية من أضعف المناطق في العالم من ناحية الإنتاج الإعلامي. ونقصد هنا بالإنتاج الإعلامي ليس فقط إنتاج الأفلام والمسلسلات والدراما والبرامج الإذاعية والتلفزيونية، بل أيضا إنتاج الأخبار والمحتوى الرقمي على شبكات الإنترنت. ولفترة طويلة لعب الإنتاج الإعلامي المصري دورا كبيرا على المستوى العربي وزوّد المشاهد العربي بالأفلام والمسلسلات التي تعالج في أغلبها قضايا محلية وليس بالضرورة قضايا عربية مشتركة. كما أن مؤسسات الإنتاج العربي المشترك ساهمت في الإنتاج الإعلامي العربي، لكنها بقيت جميعها تجارب محدودة ومرتبطة بمصدر رأس المال.
وبذلك لا يمكن الحديث فعليا عن إنتاج إعلامي عربي في المستوى المطلوب ساهم في النهوض بالشعوب العربية وفي دعم الثقافة والهوية العربية. بل أن أهم وأخطر عنصر في مجال الإنتاج الإعلام، وهو إنتاج الأخبار، بقي في تبعية عميقة لوكالات الأنباء العالمية التي بقيت إلى الآن تحتكر مصادر الأخبار وشبكات توزيعها. وجاءت في السنوات الأخيرة شبكات الإعلام الرقمي لتزيد الأزمة عمقا، إذ يعتبر المحتوى العربي الرقمي من أضعف المحتويات على شبكة الإنترنت. وبالتالي يمكن القول بأن المنطقة العربية قد ضيّعت فرصة الدخول فيما كان يعرف في ثمانينيات القرن الماضي بالصناعات الإعلامية.
- التبعية التكنولوجية
لقد تجسّدت تبعية معظم الدول العربية للغرب في مجالات عديدة، لكن أخطرها كان في مستوى التبعية التكنولوجية. فتطور وسائل الإعلام ارتبط منذ القدم بالتطور التكنولوجي، وبما أننا فشلنا في إرساء برامج ومشاريع تطوير تكنولوجية وطنية وعربية، فقد كرّسنا التبعية على المستوى التكنولوجي، وصرنا مستهلكين لتكنولوجيات عديدة ومكلفة، وبقيت عملية تطوير مجال الإعلام في بلداننا مرتبطة بالتطور التكنولوجي في الغرب والشرق، ومدى موافقته على مدّنا بهذه التكنولوجيات لتطوير وسائلنا وأجهزتنا الإعلامية.
- ضعف التدريس والتأهيل والتدريب في مجال الإعلام
تبعاً لما سبق بقيت مخرجات التدريس والتأهيل والتدريب في مجال الإعلام على المستوى العربي ضعيفة. فالملاحظ أن أغلب البرامج الأكاديمية وبرامج التدريب في المجال الإعلامي هي برامج مستوردة ومعلّبة ولا تعبّر بالضرورة عن واقع المجتمعات العربية. كما أن الجامعات العربية ومراكز التدريب عادة ما تأتي في ذيل قائمة الجامعات ومراكز التدريب العالمية. وهذا يطرح أكثر من سؤال حول أسباب هذا الفشل، بالرغم من المجهودات الكبيرة والأموال المرصودة في هذا المجال.
- ضعف البحوث في المجال الإعلامي
لم يسلم مجال البحث العلمي في المجال الإعلامي هو الآخر من أسباب الضعف والتأخر، فمعظم البحوث والدراسات في المجال الإعلامي هي بحوث ودراسات مستوردة. ولم تتمكن مراكز البحوث والدراسات الجامعية العربية من إفراز ولو بعض النظريات والتيارات النقدية العلمية في مجال الإعلام. وبالتالي أضفنا على التبعية التكنولوجية تبعية أخرى علمية وبحثية لا ندري كيف الخروج منها وإلى متى ستتواصل.
- غياب التنسيق العربي- عربي
الميزة الأخرى التي تميز العمل الإعلامي العربي هو غياب التنسيق، بل الأخطر في ذلك أن بعض وسائل الإعلام العربية ساهمت في التفرقة بين الشعوب والأنظمة العربية ولعبت الدور السيء في تباعد وجهات النظر، بل عملت في بعض الأحيان على تأليب الشعوب العربية على بعضها البعض. واقتصر التنسيق الإعلامي العربي على بعض المناسبات في إطار جهود جامعة الدول العربية أو المنظمات الإقليمية العربية والإسلامية الأخرى لتشجيع الإنتاج العربي الذي يبقى محدودا رغم المحاولات.
يتضح ممّا سبق أن رهانات وتحديات الإعلام العربي كبيرة جدّا، وأن آفاق الإصلاح والتطوير تحتاج إلى فكر استراتيجي وتخطيط محكم وطرق تنفيذ ومتابعة دقيقة، بالإضافة على توفير الإمكانيات المادية والبشرية لتحقيق هذه الأهداف.
من أجل نموذج جديد للإعلام العربي
بناءً على التشخيص السابق، نحاول من خلال هذا الجزء، وضع بعض المقترحات الجدية لعملية الإصلاح والتطوير التي ربّما تكون لبنة لنموذج جديد للإعلام العربي.
- الوعي السياسي لمتخذي القرار
بداية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نتحدّث عن عملية إصلاح أو تطوير ناجعة وناجحة لقطاع الإعلام والاتصال في الدول العربية في غياب الوعي السياسي لمتخذي القرار. فعملية الإصلاح والتطوير تُصبح أكثر سهولة، وأكثر سلاسة في التنفيذ، إذا توفر الوعي السياسي لدى متخذي القرار بضرورة إصلاح قطاع إعلامي رث وقديم، يعمل ضمن بنية تحتية فكرية وتكنولوجية تقليدية، ولا يتماشى مع التغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية الجديدة محليا ودوليا. وتتمحور مسألة الوعي حول عناصر أساسية من بينها:
- الوعي بأن العالم قد تغيّر، وأن التحكم التقليدي في وسائل الإعلام والاتصال بات موضة قديمة غير ناجع..
- الوعي بأن الإعلام والاتصال هو قطاع استراتيجي يمكن أن يلعب الدور الأكبر في المرحلة المقبلة محليا ودوليا.
- الوعي باعتماد نموذج جديد لقطاع الإعلام مبني على تجديد الفكر، والانفتاح، والحرية، والتوجيه الذكي، والتشريع الحديث.
- والوعي بسيادة القانون.
- التخطيط والسياسات الإعلامية
إن نجاح أي مشروع أو برنامج يعتمد في جزء كبير منه على مسألة التخطيط الناجح والذي يرتبط هو الآخر بضرورة وجود فكر استراتيجي عميق يمكن أن يحقّق الاستدامة في الأوقات الطبيعية، ويستشرف الحلول المناسبة في وقت الأزمات. وعلى هذا الأساس يتطلب إصلاح الإعلام العربي التفكير في:
- إعداد وتنفيذ استراتيجيات جديدة متوسطة وبعيدة المدى، تأخذ بعين الاعتبار التغيرات الاجتماعية والسياسية الحاصلة في المجتمعات العربية والمرتبطة أساسا بالممارسات الثقافية والإعلامية الجديدة، وخاصة في صفوف الشباب.
- الانفتاح السياسي والثقافي والاقتصادي على المجتمع الرقمي العالمي والذي لا يعترف بالحدود الجغرافية والثقافية التقليدية.
- وكذلك الاستفادة من التطورات التكنولوجية لدعم تنفيذ هذه الاستراتيجيات وجعلها رافدا من روافد النجاح، والسياسات الذكية، وليس أداة من أدوات التحكم والمراقبة التقليدية.
ولا يمكن لهذا العنصر أن يتحقق أو يَلقى النجاح إلاّ بفضل وجود بيئة سياسية جديدة تتميز بالانفتاح وقبول التحديات الجديدة، والخروج تدريجيا من عقلية السيطرة والتحكم التقليدي، لأن مقومات المجتمع الرقمي الجديد جاءت أساسا لتَكْسِر هذا النمط الفكري، ووفرت للمواطنين والمستخدمين الأدوات الكفيلة بالتحرر والخروج من عباءة سيطرة الدولة المطلقة على وسائل الإعلام والاتصال، والتعامل الذكي مع هذه الوسائل.
وهنا تدخل مسألة أهمية وعي صانعي القرار العرب بأن الممارسات الثقافية والإعلامية الجديدة تُطور المجتمع وتصقله فكريا. وأن انتشار استخدام وسائل الإعلام والاتصال الرقمي، ضمن فلسفة عالم رقمي حر ومفتوح منتشرة في أغلب دول العالم، سوف تقضي لا محالة على أساليب التنظيم القديمة، بل في صورة مواصلة نفس نمط التحكم المطلق، سوف تؤدي في لحظة ما إلى انهيار النظام الاجتماعي والثقافي القائم، ولا محالة سوف يتبعه بشكل طبيعي انهيار النظام السياسي القائم.
وضمن فلسفة إعادة تنظيم وإصلاح قطاع الإعلام والاتصال العربي، قد يكون من الأجدى إيلاء مسؤولية هذا القطاع إلى هيئات مستقلة عن السلطة المركزية، على غرار هيئة تنظيم الاتصالات في بريطانيا (Ofcom) أو الهيئة الفدرالية للاتصالات في الولايات المتحدة الأمريكية (FCC) أو المجلس الأعلى للاتصال السمعي المرئي في فرنسا (CSA)، وهي هيئات قوية توازن بين حقوق المواطنين والمستخدمين، ضمن فلسفة حرية الرأي والتعبير، في استخدام وسائل الإعلام والاتصال، وبين التطبيق الصارم للقوانين والتشريعات التي تضعها الدولة في هذا المجال، والتي لا تخلو من إجراءات صارمة وسياسات معلنة وواضحة تحمي جميع الأطراف (الدولة/المواطن/المستثمر) من أي تجاوزات أو أخطار.
لقد ولّى عهد وزارات الإعلام في البلدان العربية في شكل عملها التقليدي ونمط تنفيذها للإجراءات والقوانين، وأصبحت صورتها مهتزة لدى الجميع داخليا وخارجيا، وظلت لسنوات عديدة، رمزا للتحكم والسيطرة المطلقة على وسائل الإعلام والاتصال المحلية.
لقد فقد الشكل الحالي لوزارات الإعلام العربية ثقة أغلب مكونات المجتمع محليا ودوليا، ووجب، ضمن فكر الإصلاح والتجديد، المرور إلى نمط عصري يأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الجديدة ويدعم المرور إلى نمط المجتمع الرقمي الحر والمنفتح والمنضبط ممارسةً وتنظيماً.
- تطوير القوانين والتشريعات الإعلامية
أصبح من الملح جدّا تطوير القوانين والتشريعات الإعلامية في البلدان العربية، والتي يعود بعضها إلى بدايات الألفية الثانية، وبعضها الآخر إلى أقدم من ذلك بكثير. وتعتبر البنية التشريعية في هذا الإطار إحدى أهم عناصر التحديث وأبرز مكونات التخطيط الاستراتيجي. كما أن معظم التشريعات والقوانين العربية في مجال الإعلام لا تنظم بشكل واضح وصريح ملكية وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ولا تعالج بالشكل المطلوب النقص الحاصل في تنظيم وممارسة وسائل الاتصال الرقمي.
وربّما تكون المقاربة السليمة، ضمن عملية تطوير البنية التشريعية والقانونية لوسائل الإعلام والاتصال، مقاربة ترتكز على مبادئ الانفتاح السياسي والتشجيع على الاستثمار الخاص، وضمان حرية الرأي والتعبير والتطبيق الصارم للقوانين وإجراءات حماية مصالح الدولة والمجتمع والنظام العام.
لقد حان الوقت لكي توقف الدولة تدخلها المباشر في عمل وسائل الإعلام والاتصال بمختلف أشكالها وتنهي سيطرتها وأساليب التحكم المطلق فيها، لتأخذ نهج مغاير وعصري يُوكل مهمة الإشراف والمراقبة لهيئات مستقلة، وتمدها بالإمكانيات المادية والبشرية اللازمة لتضمن بذلك التطبيق الناجع للقوانين والتشريعات من جهة، وضمان حرية الرأي والتعبير داخل المجتمع من جهة ثانية.
- إعادة هيكلة المؤسسات الإعلامية الرسمية وغير الرسمية
لا تزال أهم وأبرز وسائل الإعلام العربية المرئية والمسموعة وحتّى المطبوعة ملك أو شبه ملك للدولة من خلال التحكم في رأس مالها أو من خلال تبعية ميزانيتها للميزانية العامة للدولة، وكذلك باعتبار أن العاملين فيها هم عبارة عن موظفين حكوميين يأتمرون بأوامر الدولة. هذا النموذج التقليدي لهيكلية المؤسسات الإعلامية الحكومية أصبح نموذجا باليا لا يرقى إلى التطورات والتغيرات التي تشهدها المؤسسات الإعلامية في معظم دول العالم. والغريب أن البلدان العربية تأقلمت بسرعة مع العولمة ونظام اقتصاد السوق وطوّرت من تشريعاتها الاقتصادية والتجارية نحو الانفتاح والتأقلم مع العولمة، باستثناء قطاع الإعلام والاتصال الذي بقي حكرا على الدولة.
وبالتالي، فإن الخروج من نمط سيطرة جانب واحد على المؤسسات الإعلامية أصبح أمرا ملحاً، لأنه يتناقض مع مبادئ الحرية والانفتاح وتشجيع الاستثمار الخاص في مجال الإعلام والاتصال. وعليه ربّما تكون مسألة إعادة هيكلة المؤسسات الإعلامية الرسمية، وغير الرسمية، ضمن نمط أو مفهوم جديد يعتمد على الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتؤخذ فيه القرارات ضمن آليات تشاورية، على شكل مجالس الإدارة التي عادة ما يكون عملها مبنياً على التوفيق بين النجاعة الاقتصادية والمصالح الوطنية، هو الحل الأنسب للفترة المقبلة.
- الاستثمار في وسائل الإعلام العربية
لا يمكن لأي مؤسسة مهما كان نوع عملها أن تتطور وتساهم في نجاح الاقتصاد ورقي المجتمع، إذا لم تَلقَى الدعم والاستثمار اللازمين لتحقيق هذا النجاح. فبقدر ما تستثمر الدولة في بناء الطرق والجسور والمباني، بقدر ما يجب عليها أن تستثمر في بناء وتطوير البنى التحتية التقنية والتكنولوجية المرتبطة بعمل وسائل الإعلام والاتصال، وكذلك الاستثمار المباشر في المحتوى الإعلامي بمختلف أشكاله المرئي، المسموع أو الرقمي، وهو على الإطلاق أكبر استثمار لأهميته الاستراتيجية في صقل فكر أفراد المجتمع والتأثير الكبير على آرائهم وأفكارهم.
- الاستثمار في الصحفي والإعلامي العربي- الأكاديميات الاعلامية
ولا يقتصر الاستثمار على البنى التحتية التقنية والتكنولوجية والمحتوى الإعلامي، بل يتجاوزه إلى مسألة خطيرة، بدونها لا تنجح عملية التطوير والتجديد، وهي الاستثمار في المواطن والصحفي أو الإعلامي العربي. وهنا المقاربة بسيطة جدا، إذا نجحنا في تأهيل إعلامي ناجح، سوف نزيد من فرص نجاح مجتمعاتنا إعلاميا وثقافيا وسياسيا. فدور الإعلام في المجتمع، كما ذكرنا سابقا، أساسي واستراتيجي في عملية الإصلاح والتطوير.
ولا بد هنا من مراجعة شاملة لعملية التعليم والتدريب والتأهيل المرتبطة بقطاع الإعلام والاتصال، وجميع الأطراف المتداخلة في هذا الأمر، من جامعات ومعاهد ومراكز تدريب من جهة، والمؤسسات الإعلامية والاتصالية من جهة أخرى. والأهم في هذا الإطار أن يكون هناك جسر يربط قطاع الإنتاج الإعلامي بقطاع التدريب والتأهيل يأخذ بعين الاعتبار الاتجاهات الحديثة في العمل والتقنيات والتكنولوجيات الداعمة له.
- صناعة خطاب إعلامي عربي جديد ومتجدّد
إذا نجحنا، ولو مرحليا، في عملية إصلاح وتطوير قطاع الإعلام طبقا للأفكار والمقترحات السابقة، فإننا سوف نعزّز فرص نجاحنا في صناعة صورة إعلامية جديدة للمجتمع العربي من خلال خطاب إعلامي حديث وعصري ينسخ الصور النمطية القديمة والبالية للمجتمعات العربية “المتخلفة” و”الراعية للإرهاب” كما يُروج في وسائل الإعلام الغربية.
ولن ينجح هذا الخطاب الإعلامي العربي الجديد بالإقناع محليا ودوليا بدون نجاح تكريس الآليات المصاحبة له والتي تعبّر عن مبادئ الانفتاح والاستقلالية والابتكار في ظل بيئة إعلامية وسياسية منفتحة تضمن حرية الرأي والتعبير، وتوفر الحماية التشريعية والدستورية اللازمة لعمل الهيئات التنظيمية المستقلة والمؤسسات والشركات الإعلامية والاتصالية الخاصة، وكذلك تُبعِد شبح التحكم التقليدي والسيطرة المطلقة لسلطة الدولة على وسائل الإعلام والاتصال.
- خلق الوعي والتأثير في بناء الشخصية العربية من خلال الإعلام
يمكن في نفس الاتجاه أن يلعب النموذج الجديد من الإعلام الدور الأساسي في خلق الوعي لدى المواطن العربي، ويمكن أن يعزّز من فرص التأثير في الشخصية العربية، وذلك بشرط أن تسود علاقة ثقة جديدة بين المواطن العربي من جهة، والإعلام من جهة ثانية. فالمبادئ والآليات الجديدة التي سوف يُبنى عليها الإعلام العربي، سيجعل من هذا المواطن العربي مواطنا واعيا لا يلجأ إلى وسائل الإعلام الأجنبية لتغزو فكره، بل يَرجع إلى حضن إعلامه العربي الذي من المفترض أن يكون أقرب له ثقافيا واجتماعيا وفكريا.
ويتطلب الأمر هنا أن يكون موضوع بناء الشخصية العربية جزءً لا يتجزأ من استراتيجيات الدولة، الأمنية والقومية، وذلك من خلال وضع هدف استراتيجي أساسي يرمي إلى تعزيز دور الدولة في بناء شخصية المواطن العربي الحريص على وطنه وأمنه واستقراره. ويمثل التعليم والإعلام أهم أداتين في تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي، باعتبارهما مجالين شديدي الأهمية في عملية التنشئة الاجتماعية والإحاطة النفسية والفكرية… وبهما يمكن بناء شخصية الفرد العربي ليرقى إلى النموذج العالمي الفخور بهويته وتراثه وجذوره التاريخية، والحريص على ثقافة العمل والبناء والسلام.
- جعل الإعلام رافدا لتعزيز الحضور الإقليمي والدولي
يتمثل الرابط الأخير في نجاح النموذج الإعلامي العربي الجديد في الوصول إلى درجة من النضج التي تتحقق بفضل تكريس المبادئ السابقة وتعزيز الممارسة الإعلامية في ثوبها الجديد وتطويرها المتواصل وتجديد قيمها. وبذلك يمكن لهذا النموذج الإعلامي العربي الجديد أن يصبح رافدا أساسيا لتعزيز الحضور العربي على المستوى الإقليمي والدولي، لكن مرّة أخرى نؤكد على أهمية عنصر الثقة الذي يجب أن يسود بين المواطن والإعلام، والذي يحتاج إلى وقت وصيرورة من العمل التراكمي ضمن عملية البناء والممارسة الإعلامية.
- أهمية التكامل الإعلامي العربي
ولنجاح الحضور الإعلامي العربي الإقليمي والدولي، هناك ضرورة بالغة ليكون دور هذا الإعلام تكاملياً فالوطن العربي مكون من مجموعة من الدول تتضمن اختلافات سياسية واجتماعية وثقافية وحتّى اقتصادية، ومن الحكمة استغلال الإعلام لتوجيه الرؤية إلى هذه الاختلافات بكيفية تجعلها عناصر قوة تُوحّد ولا تُفرّق. ومن حسن حظّنا أن وطننا العربي، برغم الاختلافات، هو وطن متجانس من ناحية الثقافة والدين والهوية، والتي هي المبادئ الأساسية في بناء الدولة.
وللنجاح في المضي قدما، يجب على مجتمعاتنا العربية وقياداتها تفعيل التكامل العربي وتعزيز آليات تطبيقه. كما على وسائل الإعلام العربية، الكبرى والأهم، لعب الدور الأساس في صناعة مبادئ التقريب ونبذ التفرقة والخروج من الحسابات السياسية الضيقة التي لا تدوم وتتغيّر بتغير الأوضاع والمصالح.. في ظل المشاريع الدولية والإقليمية المتكالبة على المنطقة.
خاتمة
حاولنا من خلال هذا البحث الوقوف على الأهمية الكبرى التي أصبح يكتسيها مجال الإعلام والاتصال في المجتمع بشكل عام، وخاصة في علاقته بالتطور التقني والتكنولوجي الذي اجتاح المجتمعات وغيّر في لعبة الأدوار والوظائف التقليدية لوسائل الإعلام والاتصال. وركّزنا في الجزء الثاني منه على مشاكل وتحديات الإعلام العربي، وذلك في خضم التغيرات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تشهدها المنطقة العربية والتطورات التكنولوجية الرهيبة التي يشهدها العالم بشكل أشمل والتي أصبحت تؤثر بصورة مباشرة في المجتمعات والثقافات والسياسة المحلية والدولية. وتضمّن البحث أيضا تشخيصا واقعيا لوضع الإعلام العربي الراهن، مع محاولة وضع مقترحات جدّية لنموذج عربي جديد يمكن أن يساعد على إخراج هذا الإعلام العربي من وضعية التأخر والوهن الذي هو عليه والذي يزيد من ضعف ووهن بلداننا العربية، ويجعلنا تابعين على المستويات الاقتصادية والثقافية والتكنولوجية وحتّى في السياسة الدولية.
[i] Breton, P. et Proulx, S. (2012). L’explosion de la Communication-Introduction aux Théories et aux Pratiques de la Communication. La Decouverte.
[ii] مانويل كاستلز، “سلطة الاتصال”، أكسفورد، 2014.
[iii] المصدر السابق
[iv] بيير بورديو،” التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول”، دار كنعان للدراسات والنشر والخدمات الإعلامية، ترجمة درويش الحلوجي، 2004.
[v] Norbert Wiener, Cybernetics, Paris, Hermann, 1948.
[vi]https://www.jfklibrary.org/learn/about-jfk/historic-speeches/acceptance-of-democratic-nomination-for-president
[vii] https://www.lesnumeriques.com/vie-du-net/l-affaire-tiktok-en-5-grandes-questions-quand-les-etats-unis-dictent-les-lois-du-marche-a153481.html
[viii] https://www.presse-citron.net/cest-officiel-les-etats-unis-categorisent-huawei-et-zte-comme-des-menaces-a-la-securite-nationale/
[ix] https://www.lapresse.ca/affaires/techno/2020-08-18/sanctions-contre-huawei-la-chine-accuse-les-etats-unis-d-abus-de-pouvoir.php
[x] https://www.wired.com/2014/11/countdown-to-zero-day-stuxnet